ها وقد تم اعتماد ٢٢ فبراير ١٧٢٧م تاريخا رسميا لتأسيس الدولة السعودية ويوما وطنيا للاحتفاء بهذا الحدث المفصلي، فلعلنا اليوم نتوقف لنستذكر تلك المناسبة ونعود أدراجنا إلى بدايات هذه الدولة ونتدبّر ظروف نشأتها.
حينما اُضطر ابن معمر -بضغط خارجي من حاكم الأحساء- أن يطلب من محمد بن عبدالوهاب أن يغادر العيينة ويجد لنفسه ملاذا آخر يُؤويه، صار الشيخ يبحث من حوله عن دولة مستقرة ذات سيادة ومستقلة بقرارها، فكان الخيار الوحيد المتاح أمامه هو محمد بن سعود حاكم دولة الدرعية بتاريخها العريق. كانت الدرعية واحدة من دول المدينة city states القائمة في نجد آنذاك، حيث كانت دولة المدينة هي السمة الغالبة على طبيعة الكيانات السياسية في نجد حينها. ودولة المدينة عادة تكون مدينة متوسطة الحجم إلى كبيرة يقطن معظم سكانها الأطراف ويمارسون الزراعة. وفي قلب المدينة تقطن الطبقة الأرستقراطية من التجار والأعيان وذوي الشأن الذين يمارسون التجارة ومهام الحكم. ويتوارث الحكم في دولة المدينة أبناء وأحفاد كبار العوائل التجارية وأعظمهم تأثيرا على المستوى المحلي والذين يتمتعون بعلاقات واسعة ومتشعبة مع أهالي المناطق المجاورة بحكم نشاطاتهم التجارية، والتي قد تنمو وتتطور إلى تحالفات سياسية تسيرها المصالح وتطورات الأحداث. ولعل أبرز الأمثلة على الوضع القائم آنذاك هي الدرعية والعيينة والرياض. وكان مانع المريدي هو من أسس الدرعية عام ١٤٤٧م، وفي دورها الثالث لاحقا أطلق الملك عبدالعزيز على هذه الدولة بعد أن توسعت إلى أقصى حد لها مسمى «المملكة العربية السعودية».
وها نحن نحتفل بمرور ٣٠٠ سنة على تأسيس المملكة، وهذا عمر مديد وتاريخ عريق في تواريخ الأمم. ولعل هذه لحظة مفصلية نتحلل فيها من عباءة الدعوي لنرتدي عباءة التنموي ونتدارك المكاسب بحيث لا تتحول إلى خسائر. لكن لأبدأ أولا بالاعتراف بأنه ليس من السهل ولا المريح أن يمتهن الكاتب انتزاع أشواك التاريخ من جسد الوطن، لكنها مهنة المتاعب التي لا بد أن يحترفها كل مشفق على بلده وأهل بلده. الموضوع الذي أطرحه اليوم آن الأوان لطرحه، ولا أشك أنه يدور في أذهان الكثيرين الذين يبتغون الخير لوطنهم. أنا أتحدث هنا عن التوفيق بين موروث الماضي ومعطيات الحاضر وتطلعات المستقبل.
المملكة العربية السعودية هي مهبط الوحي ومهد الرسالة المحمدية وتحتضن بين ربوعها أقدس الأماكن الإسلامية. هذا من الناحية الجغرافية، أما من الناحية السياسية فإن قيام الدولة السعودية ارتبط بدعوة دينية. هذا الإرث منح الدولة السعودية في العقود الفائتة ثقلا دبلوماسيا لا يستهان به مما جعلها دوما تحتل الصدارة بين دول العالم الإسلامي ويُنظر لها على المستوى الدولي كقائدة للأمة الإسلامية ومقر رابطة العالم الإسلامي والتي تؤول إليها رئاستها.
كيف نوفق بين هذا الإرث الذي حفر لنا مكانة في القمة بين دول العالم لا يمكن التفريط بها وبين ضغوط العولمة ومتطلبات الحداثة والتنمية؟! كيف نحتفظ بمكتسبات الماضي وفي نفس الوقت نمهد الطريق أمام مسارات التطور والتحديث؟ هل هذا يحتم علينا إعادة كتابة التاريخ، أم إعادة النظر فيه وقراءته وتفهّمه؟! اهدأ أيها القارئ ولا تتجهم أو تتهجم ولكن فكر معي لإيجاد مخارج وحلول توفق بين الحسنيين. إن كنت لا ترى المشكلة فهذا لا يعني عدم وجود المشكلة بقدر ما يعني عدم وعيك بها. تجاهل القضايا وعدم التفكير بها أو تأجيله قد يفاقم إشكاليات التعاطي معها أكثر. هناك أمور كثيرة ينبغي إعادة النظر فيها لكن عامة الناس، وغالبيتنا عامة مع الأسف، غير مستعدين وغير متقبلين لذلك. فنحن نفتقد للياقة الذهنية للتعامل مع الواقع المتغير والمتجدد. أصبحنا ننأى بحمولة الماضي الذي يعز علينا التخلي عنها أو حتى إعادة النظر فيها. هذا يجعل مهمة قيادتنا للتطوير والتحديث مهمة صعبة، بينما كان من الأولى بنا أن نكون عونا لها لا عليها.
شكلت الدعوة الوهابية في حينها وسيلة نبيلة وأداة ناجحة استثمرها أمراء الدرعية لتوحيد مجتمعات الجزيرة العربية الممزقة والمتحاربة تحت دولة واحدة تستظل بظل نظام سياسي واحد يلم شتاتها. وقد مرت على هذه التجربة الجنينية قرون توطد خلالها مفهوم الدولة وترسخت لدى سكان المملكة في مختلف مناطقها فكرة أنهم أبناء وطن واحد. ولقد أدت هذه الدعوة دورها على أكمل وجه. لكن الأدوات السياسية تتغير مع تغير الظروف والأزمنة.
كان كُتّاب التاريخ السعودي التقليديون كلهم من الطلاب الأوفياء للشيخ محمد مثل ابن غنام وابن بشر وابن منقور، لذلك طغى في كتاباتهم مفهوم الدعوة ومفرداتها على مفهوم الدولة وإنجازاتها، ودور الداعية على دور الحاكم. لذا طغى الجانب الدعوي على الجانب السياسي واستطردوا في الحديث عن توحيد الربوبية أكثر من حديثهم عن توحيد البلاد. أي أن تواريخهم جاءت أقرب إلى أن تكون مصادر للدعوة منها مصادر للدولة. وهكذا قلبت تلك الكتابات التاريخية المبكرة صورة الدولة السعودية من دولة دنيوية تهتم بشؤون الدنيا إلى مؤسسة دعوية تكرس جهدها لما بعد الدنيا.
الصورة التي ينقلها أولئك المؤرخون التقليديون أقرب إلى الندية وتوازن الثقل السياسي والمعنوي بين الأمير والداعية. وصوّروا لنا الأمر وكأنما لحظة انطلاق الدولة وولادتها تزامنت تحديدا مع وفود محمد بن عبدالوهاب على محمد بن سعود في الدرعية. ولا يستغرب من أولئك المؤرخين من طلاب الشيخ تضخيم دور الدعوة ودور الشيخ حيث أغفلوا أن الشيخ ودعوته النبيلة كانوا أدوات سياسية استثمرها أمراء الدرعية من أجل لم شتات مناطق الجزيرة التي مزقتها الحروب الأهلية ومن أجل ترسيخ الأمن والسلم الداخلي لتزدهر التجارة والفلاحة والملاحة والاقتصاد عموما، وكذلك إقامة شعائر الدين بمفهومها الصحيح. والقادة الذين قادوا الجيوش وضحوا في ميادين القتال من أجل هذا الهدف النبيل هم محمد بن سعود وذريته. وفي اللقاء الأول بين محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب لم يكن الحديث عن تأسيس دولة غير موجودة وإنما كان الحديث عن حماية الدعوة وصاحبها في ظل دولة قائمة وسلطة متجذرة وراسخة وفد إليها يطلب حمايتها. وقد رأى محمد بن سعود في دعوة الشيخ آلية فعّالة من ضمن آليات أخرى تعزز شرعية الدولة وتدعم مشروعه لتوحيد البلاد الممزقة ونشر الأمن والسلام في ربوع الجزيرة العربية.
لا شك أن الجانب الأيديولوجي كان له الدور الأهم في ترسيخ مفهوم الدولة والسلم الاجتماعي، لكن لا ينبغي نكران التضحيات التي قدمها قادة معارك التوحيد الذين استبسلوا في ميادين الدفاع عن منجزات الدولة. وقد سبق لي أن أوردت قائمة بأسماء أهم هؤلاء القادة من غير آل سعود في مقالة نشرتها «عكاظ» تحت عنوان «مجسّمات أبطال التوحيد في الساحات العامة». ولا ننسى كذلك أمراء المناطق الذين حفظوا الأمن في مناطقهم وشيوخ القبائل الذين قدموا ولاءهم للدولة وحاربوا في جيوشها. حتى الشيخ محمد لم يكن يدعو لنفسه مطلقا، بل كان يدعو إلى إقامة دولة جامعة وهذا يلزم بالضرورة وجود ولي أمر مُطاع يقيم أركان الدين والدولة ويلم شمل المواطنين. ولم يكن الشيخ يرى نفسه إلا مواطنا في هذه الدولة حيث بايع محمد بن سعود على الولاء والبراء في أول لقاء لهما. ولكن بحكم تأهيل الشيخ وقدراته قبله محمد بن سعود مواطنا أولا في إمارته وعيّنه مستشارا بالمرتبة الأولى في بلاطه، وهو المنصب الذي تعاقبت عليه ذريته الأكارم من بعده. وكان لدعوة الشيخ وبعد نظره دور مهم في تكريس شرعية محمد بن سعود وتثبيت أركان الدولة السعودية الأولى. وحينها كانت قد توفرت الظروف الموضوعية لقيام الدولة السعودية الجامعة متمثلة في تطلع سكان الجزيرة إلى دولة توحدهم وتلم شتاتهم وتنهي النزاعات المحلية، ناهيك عن توفر القادة الأفذاذ الذين رسموا الاستراتيجيات الحربية وقادوا حملات التوحيد. وقد ساهم في تمويل هذه الحملات التجار المحليون الذين كانوا تواقين لتأمين المواصلات واستتباب الأمن لتزدهر تجارتهم. ولقد تكاتفت كل هذه الإمكانات الحربية والمالية والدعوية لتمكين محمد بن سعود من ترسيخ دعائم دولته العتيدة.
وقد ظلت الدعوة في مراحل التأسيس الأولى تسير بموازاة الدولة، مما شوّش على مفهوم السلطة. بل إن الدعوة حاولت في قليل من الأحيان مشاطرة الدولة مقومات الهيبة، كما حدث في حركة الإخوان وحركة الصحوة وجهيمان. وحتى ظهور رؤية ٢٠٣٠ كانت الدعوة تسيّر مناهج التعليم والإعلام، مما أدى إلى مزاحمة المؤسسات الدعوية للمؤسسات المدنية على الصدارة وإلى هيمنة الفكر المحافظ على الفكر الحيوي المتجدد. لذا اتصفت سياسات المملكة قبل الرؤية بقدر من الركود والمراوحة في نفس الأطر التقليدية المتوارثة.
وفي يومنا هذا تخوض السعودية معارك التحديث التي لها معطياتها التي تختلف عن معطيات معارك التوحيد. منذ قيام الدولة السعودية في دورها الثالث على يد الملك عبدالعزيز ترسخت فكرة الوحدة السياسية وأصبح التطوير والتحديث هو هم الدولة الأول، خصوصا بعد اكتشاف البترول. اكتشاف البترول وما أعقبه من رخاء اقتصادي رسخ مفهوم الوحدة وحول اتجاه البوصلة والهم الوطني من المحافظة على الوحدة السياسية إلى البناء والتطوير، بما يتطلّبه ذلك من تحديث للرؤية السياسية ومن لياقة أيديولوجية تتماشى مع عصر العولمة. وجاءت رؤية ٢٠٣٠ لتكرس سياسات وبرامج التطوير والتحديث.
كون السعودية مهبط الوحي ومنطلق الرسالة المحمدية واحتضانها للمقدسات الإسلامية وقيادتها للعالم الإسلامي مكتسبات عالية القيمة وبالغة الأهمية ولا ينبغي التفريط بأي منها. لكن لا ينبغي لأي أحد أن يحيلها من مكتسبات إلى عوائق تقف في وجه برامج العصرنة والتنمية، والمثل الشعبي يقول: الدنيا تبي والآخره تبي. لا ينبغي للسعودية العصرية أن تظل رهينة لمسلمات لها ظروفها ومعطياتها. السؤال الملح هو كيف نحتفظ بمكانتنا القيادية في العالم الإسلامي دون أن يقف هذا الدور عائقا أمام الالتفات لأمورنا الدنيوية وتطوير بلدنا في المجالات التنافسية في المجتمع الدولي؟
طموحات التحديث والتطوير والتنمية لا تتماشى مع المفاهيم الثبوتية المقولبة. دعونا نجعل من التغيير انتقالا سلسا وليس «طيحةً» تكسر العظم. علينا جميعا أن نؤمن بحتمية التغيير وأن نتفاعل بإيجابية مع متطلباته وشروطه ونترك مساحة للاجتهادات وتعدد الآراء مع الحفاظ على تماسك المجتمع وعلى هيبة الدولة ومؤسساتها ورموزها. اعتدنا أن نقف في الصفوف الخلفية في منتخبات الإنجاز العالمية والآن جاء دورنا لنقتحم المجالات التي تؤهلنا لنقف في الصفوف الأولى من بين الشعوب المنجزة في العالم المتقدم.
حينما اُضطر ابن معمر -بضغط خارجي من حاكم الأحساء- أن يطلب من محمد بن عبدالوهاب أن يغادر العيينة ويجد لنفسه ملاذا آخر يُؤويه، صار الشيخ يبحث من حوله عن دولة مستقرة ذات سيادة ومستقلة بقرارها، فكان الخيار الوحيد المتاح أمامه هو محمد بن سعود حاكم دولة الدرعية بتاريخها العريق. كانت الدرعية واحدة من دول المدينة city states القائمة في نجد آنذاك، حيث كانت دولة المدينة هي السمة الغالبة على طبيعة الكيانات السياسية في نجد حينها. ودولة المدينة عادة تكون مدينة متوسطة الحجم إلى كبيرة يقطن معظم سكانها الأطراف ويمارسون الزراعة. وفي قلب المدينة تقطن الطبقة الأرستقراطية من التجار والأعيان وذوي الشأن الذين يمارسون التجارة ومهام الحكم. ويتوارث الحكم في دولة المدينة أبناء وأحفاد كبار العوائل التجارية وأعظمهم تأثيرا على المستوى المحلي والذين يتمتعون بعلاقات واسعة ومتشعبة مع أهالي المناطق المجاورة بحكم نشاطاتهم التجارية، والتي قد تنمو وتتطور إلى تحالفات سياسية تسيرها المصالح وتطورات الأحداث. ولعل أبرز الأمثلة على الوضع القائم آنذاك هي الدرعية والعيينة والرياض. وكان مانع المريدي هو من أسس الدرعية عام ١٤٤٧م، وفي دورها الثالث لاحقا أطلق الملك عبدالعزيز على هذه الدولة بعد أن توسعت إلى أقصى حد لها مسمى «المملكة العربية السعودية».
وها نحن نحتفل بمرور ٣٠٠ سنة على تأسيس المملكة، وهذا عمر مديد وتاريخ عريق في تواريخ الأمم. ولعل هذه لحظة مفصلية نتحلل فيها من عباءة الدعوي لنرتدي عباءة التنموي ونتدارك المكاسب بحيث لا تتحول إلى خسائر. لكن لأبدأ أولا بالاعتراف بأنه ليس من السهل ولا المريح أن يمتهن الكاتب انتزاع أشواك التاريخ من جسد الوطن، لكنها مهنة المتاعب التي لا بد أن يحترفها كل مشفق على بلده وأهل بلده. الموضوع الذي أطرحه اليوم آن الأوان لطرحه، ولا أشك أنه يدور في أذهان الكثيرين الذين يبتغون الخير لوطنهم. أنا أتحدث هنا عن التوفيق بين موروث الماضي ومعطيات الحاضر وتطلعات المستقبل.
المملكة العربية السعودية هي مهبط الوحي ومهد الرسالة المحمدية وتحتضن بين ربوعها أقدس الأماكن الإسلامية. هذا من الناحية الجغرافية، أما من الناحية السياسية فإن قيام الدولة السعودية ارتبط بدعوة دينية. هذا الإرث منح الدولة السعودية في العقود الفائتة ثقلا دبلوماسيا لا يستهان به مما جعلها دوما تحتل الصدارة بين دول العالم الإسلامي ويُنظر لها على المستوى الدولي كقائدة للأمة الإسلامية ومقر رابطة العالم الإسلامي والتي تؤول إليها رئاستها.
كيف نوفق بين هذا الإرث الذي حفر لنا مكانة في القمة بين دول العالم لا يمكن التفريط بها وبين ضغوط العولمة ومتطلبات الحداثة والتنمية؟! كيف نحتفظ بمكتسبات الماضي وفي نفس الوقت نمهد الطريق أمام مسارات التطور والتحديث؟ هل هذا يحتم علينا إعادة كتابة التاريخ، أم إعادة النظر فيه وقراءته وتفهّمه؟! اهدأ أيها القارئ ولا تتجهم أو تتهجم ولكن فكر معي لإيجاد مخارج وحلول توفق بين الحسنيين. إن كنت لا ترى المشكلة فهذا لا يعني عدم وجود المشكلة بقدر ما يعني عدم وعيك بها. تجاهل القضايا وعدم التفكير بها أو تأجيله قد يفاقم إشكاليات التعاطي معها أكثر. هناك أمور كثيرة ينبغي إعادة النظر فيها لكن عامة الناس، وغالبيتنا عامة مع الأسف، غير مستعدين وغير متقبلين لذلك. فنحن نفتقد للياقة الذهنية للتعامل مع الواقع المتغير والمتجدد. أصبحنا ننأى بحمولة الماضي الذي يعز علينا التخلي عنها أو حتى إعادة النظر فيها. هذا يجعل مهمة قيادتنا للتطوير والتحديث مهمة صعبة، بينما كان من الأولى بنا أن نكون عونا لها لا عليها.
شكلت الدعوة الوهابية في حينها وسيلة نبيلة وأداة ناجحة استثمرها أمراء الدرعية لتوحيد مجتمعات الجزيرة العربية الممزقة والمتحاربة تحت دولة واحدة تستظل بظل نظام سياسي واحد يلم شتاتها. وقد مرت على هذه التجربة الجنينية قرون توطد خلالها مفهوم الدولة وترسخت لدى سكان المملكة في مختلف مناطقها فكرة أنهم أبناء وطن واحد. ولقد أدت هذه الدعوة دورها على أكمل وجه. لكن الأدوات السياسية تتغير مع تغير الظروف والأزمنة.
كان كُتّاب التاريخ السعودي التقليديون كلهم من الطلاب الأوفياء للشيخ محمد مثل ابن غنام وابن بشر وابن منقور، لذلك طغى في كتاباتهم مفهوم الدعوة ومفرداتها على مفهوم الدولة وإنجازاتها، ودور الداعية على دور الحاكم. لذا طغى الجانب الدعوي على الجانب السياسي واستطردوا في الحديث عن توحيد الربوبية أكثر من حديثهم عن توحيد البلاد. أي أن تواريخهم جاءت أقرب إلى أن تكون مصادر للدعوة منها مصادر للدولة. وهكذا قلبت تلك الكتابات التاريخية المبكرة صورة الدولة السعودية من دولة دنيوية تهتم بشؤون الدنيا إلى مؤسسة دعوية تكرس جهدها لما بعد الدنيا.
الصورة التي ينقلها أولئك المؤرخون التقليديون أقرب إلى الندية وتوازن الثقل السياسي والمعنوي بين الأمير والداعية. وصوّروا لنا الأمر وكأنما لحظة انطلاق الدولة وولادتها تزامنت تحديدا مع وفود محمد بن عبدالوهاب على محمد بن سعود في الدرعية. ولا يستغرب من أولئك المؤرخين من طلاب الشيخ تضخيم دور الدعوة ودور الشيخ حيث أغفلوا أن الشيخ ودعوته النبيلة كانوا أدوات سياسية استثمرها أمراء الدرعية من أجل لم شتات مناطق الجزيرة التي مزقتها الحروب الأهلية ومن أجل ترسيخ الأمن والسلم الداخلي لتزدهر التجارة والفلاحة والملاحة والاقتصاد عموما، وكذلك إقامة شعائر الدين بمفهومها الصحيح. والقادة الذين قادوا الجيوش وضحوا في ميادين القتال من أجل هذا الهدف النبيل هم محمد بن سعود وذريته. وفي اللقاء الأول بين محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب لم يكن الحديث عن تأسيس دولة غير موجودة وإنما كان الحديث عن حماية الدعوة وصاحبها في ظل دولة قائمة وسلطة متجذرة وراسخة وفد إليها يطلب حمايتها. وقد رأى محمد بن سعود في دعوة الشيخ آلية فعّالة من ضمن آليات أخرى تعزز شرعية الدولة وتدعم مشروعه لتوحيد البلاد الممزقة ونشر الأمن والسلام في ربوع الجزيرة العربية.
لا شك أن الجانب الأيديولوجي كان له الدور الأهم في ترسيخ مفهوم الدولة والسلم الاجتماعي، لكن لا ينبغي نكران التضحيات التي قدمها قادة معارك التوحيد الذين استبسلوا في ميادين الدفاع عن منجزات الدولة. وقد سبق لي أن أوردت قائمة بأسماء أهم هؤلاء القادة من غير آل سعود في مقالة نشرتها «عكاظ» تحت عنوان «مجسّمات أبطال التوحيد في الساحات العامة». ولا ننسى كذلك أمراء المناطق الذين حفظوا الأمن في مناطقهم وشيوخ القبائل الذين قدموا ولاءهم للدولة وحاربوا في جيوشها. حتى الشيخ محمد لم يكن يدعو لنفسه مطلقا، بل كان يدعو إلى إقامة دولة جامعة وهذا يلزم بالضرورة وجود ولي أمر مُطاع يقيم أركان الدين والدولة ويلم شمل المواطنين. ولم يكن الشيخ يرى نفسه إلا مواطنا في هذه الدولة حيث بايع محمد بن سعود على الولاء والبراء في أول لقاء لهما. ولكن بحكم تأهيل الشيخ وقدراته قبله محمد بن سعود مواطنا أولا في إمارته وعيّنه مستشارا بالمرتبة الأولى في بلاطه، وهو المنصب الذي تعاقبت عليه ذريته الأكارم من بعده. وكان لدعوة الشيخ وبعد نظره دور مهم في تكريس شرعية محمد بن سعود وتثبيت أركان الدولة السعودية الأولى. وحينها كانت قد توفرت الظروف الموضوعية لقيام الدولة السعودية الجامعة متمثلة في تطلع سكان الجزيرة إلى دولة توحدهم وتلم شتاتهم وتنهي النزاعات المحلية، ناهيك عن توفر القادة الأفذاذ الذين رسموا الاستراتيجيات الحربية وقادوا حملات التوحيد. وقد ساهم في تمويل هذه الحملات التجار المحليون الذين كانوا تواقين لتأمين المواصلات واستتباب الأمن لتزدهر تجارتهم. ولقد تكاتفت كل هذه الإمكانات الحربية والمالية والدعوية لتمكين محمد بن سعود من ترسيخ دعائم دولته العتيدة.
وقد ظلت الدعوة في مراحل التأسيس الأولى تسير بموازاة الدولة، مما شوّش على مفهوم السلطة. بل إن الدعوة حاولت في قليل من الأحيان مشاطرة الدولة مقومات الهيبة، كما حدث في حركة الإخوان وحركة الصحوة وجهيمان. وحتى ظهور رؤية ٢٠٣٠ كانت الدعوة تسيّر مناهج التعليم والإعلام، مما أدى إلى مزاحمة المؤسسات الدعوية للمؤسسات المدنية على الصدارة وإلى هيمنة الفكر المحافظ على الفكر الحيوي المتجدد. لذا اتصفت سياسات المملكة قبل الرؤية بقدر من الركود والمراوحة في نفس الأطر التقليدية المتوارثة.
وفي يومنا هذا تخوض السعودية معارك التحديث التي لها معطياتها التي تختلف عن معطيات معارك التوحيد. منذ قيام الدولة السعودية في دورها الثالث على يد الملك عبدالعزيز ترسخت فكرة الوحدة السياسية وأصبح التطوير والتحديث هو هم الدولة الأول، خصوصا بعد اكتشاف البترول. اكتشاف البترول وما أعقبه من رخاء اقتصادي رسخ مفهوم الوحدة وحول اتجاه البوصلة والهم الوطني من المحافظة على الوحدة السياسية إلى البناء والتطوير، بما يتطلّبه ذلك من تحديث للرؤية السياسية ومن لياقة أيديولوجية تتماشى مع عصر العولمة. وجاءت رؤية ٢٠٣٠ لتكرس سياسات وبرامج التطوير والتحديث.
كون السعودية مهبط الوحي ومنطلق الرسالة المحمدية واحتضانها للمقدسات الإسلامية وقيادتها للعالم الإسلامي مكتسبات عالية القيمة وبالغة الأهمية ولا ينبغي التفريط بأي منها. لكن لا ينبغي لأي أحد أن يحيلها من مكتسبات إلى عوائق تقف في وجه برامج العصرنة والتنمية، والمثل الشعبي يقول: الدنيا تبي والآخره تبي. لا ينبغي للسعودية العصرية أن تظل رهينة لمسلمات لها ظروفها ومعطياتها. السؤال الملح هو كيف نحتفظ بمكانتنا القيادية في العالم الإسلامي دون أن يقف هذا الدور عائقا أمام الالتفات لأمورنا الدنيوية وتطوير بلدنا في المجالات التنافسية في المجتمع الدولي؟
طموحات التحديث والتطوير والتنمية لا تتماشى مع المفاهيم الثبوتية المقولبة. دعونا نجعل من التغيير انتقالا سلسا وليس «طيحةً» تكسر العظم. علينا جميعا أن نؤمن بحتمية التغيير وأن نتفاعل بإيجابية مع متطلباته وشروطه ونترك مساحة للاجتهادات وتعدد الآراء مع الحفاظ على تماسك المجتمع وعلى هيبة الدولة ومؤسساتها ورموزها. اعتدنا أن نقف في الصفوف الخلفية في منتخبات الإنجاز العالمية والآن جاء دورنا لنقتحم المجالات التي تؤهلنا لنقف في الصفوف الأولى من بين الشعوب المنجزة في العالم المتقدم.